الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
: قال ابن أبي طيّ في تاريخه عند ذكر وفاة المعز لدي الله أنه أنشأ دار الصناعة التي بالمقس وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر على ميناء. وقال المسبحي: أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبرًا ووثاقة وحسنا. وقال في حوادث سنة ست وثمانين وثلاثمائة: ووقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة لست بقين من شهر ربيع الآخر فأحرقت مس عشاريات وأتت على جميع ما في الأسطول من العدّة والسلاح واتهموا الروم النصارى وكانوا مقيمين بدار ماتك بجوار الصناعة التي بالمقس وحملوا على الروم هم وجموع من العامّة معهم فنبوا أمتعة الروم وتقولا منهم مائة رجل وسبعة رجال وطرحوا جثثهم في الطرقات وأخذ من بقي فحُبس بصناعة المقس ثم حضر عيسى بن نسطورس خليفة أمير المؤمنين العزيز بالله في الأموال ووجهها بديار مصر والشام والحجاز ومعه يانس الصقلبيّ وهو يومئذ خليفة العزيز بالله على القاهرة عند مسيره إلى الشام ومعهما مسعود الصقلبيّ متولي الشرطة وأحضروا الروم من الصناعة فاعترفوا بأنهم الذين أحرقوا الأسطول فكتب بذلك إلى العزيز بالله وهو مبرّز يريج السفر إلى الشام وذكر له في الكتاب خبر من قُتِلَ من الروم وما نُهب وأنه ذهب في النهب ما يبلغ تسعين ألف دينار فطاف أصحاب الشرط في الأسواق بسجل فيها الأمر برد ما نُهب من دار ماتك وغيرها والتوعد لمن ظهر عنده منه شيء وحفظ أبو الحسن يانس البلد وضبط الناس وأمر عيسى بن نسطورس أن يمد للوقت عشرون مركبًا وطرح الخشب وطلب الصناع وبات في الصناعة وجدّ الصناع في العمل وأغلب أحداث الناس وعامّتهم يلعبون برؤوس القتلى ويُجرّون بأرجلهم في الأسواق والشوارع ثم قرنوا بعضهم لى بعض على ساحل النيل بالمقس وأُحرقوا يوم السبت وضرب بالحرس على البلد أن لا يتخلف أحد ممن نهب شيئًا حتى يُحضر ما نهب ويردّه ومن عُلم عليه بشيء أو كتم شيئًا أو جحده أو أخره حلت به العقوبة الشديدة وتتبع من نهب فقبض على عدّة قتل منهم عشرون رجلًا ضربت أعناقهم وضُرب ثلاثة وعشرون رجلًا بالسياط وطيف بهم وفي عنق كلّ واحد راس رجل ممن قُتل من الروم وحبس عدّة أناس وأمر بمن ضُربت أعناقم فصُلبوا عند كوم دينار وردّ المصريون إلى المطبق وكان ضُرب من ضُرب من النهابة وقُتل من قُتل منهم برقاع كتبت لهم تناول كل واحد منهم رقعة فيها مكتوب إما بقتل أو ضرب فأمضى فيهم بحسب ما كان في رقاعهم من قتل أو ضرب واشتدّ الطلب على النهاية فكان الناس يدل بعضهم على بعض فإذا أُخذ أحد ممن اتُهم بالنهب حَلف بالأيمان المغلظة أنه ما بقي عنده شيء. وجدّ عيسى بن نسطورس في عمل الأسطول وطلب الخشب فلم يدع عند أحد خشبًا علم به إلاّ أخذه منه وتزايد إخراج النهابة لما نهبوه فكانوا يطرحونه في الأزقة والشوارع خوفًا من أن يعرفوا به وحُبس كثير من أحضر شيئًا أو عرف عليه من النهب فلما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ضربت أعناقهم كلهم على يد أبي أحمد جعفر صاحب يانس فإنه قدم في عسكر كثير من اليانسية حتى ضربت أعناق الجماعة وأُغلقت الأسواق يومئذ وطاف متولى الشرطة وبين يديه أرباب النفط بعددهم والنار مشتعلة واليانسية ركاب بالسلاح وقد ضرب جماعة وشهرهم بين يديه وهم يُنادي عليهم هذا جزاء من أثار الفتن ونهب حريم أمير المؤمنين فمن نظر فليعتبر فما تُقال لهم عثرة ولا تُرحم لهم عبرة في كلام كثير من هذا الجنس فاشتدّ خوف الناس وعظم فزعهم فلما كان من الغد نودي: معاشر الناس قد آمن الله من أخذ شيئًا أو نهب شيئًا على نفسه وما له فليردّ من بقي عنده شيء من النهب وقد أجلناكم من اليوم إلى مثله وفي سابع جمادى الآخرة نزل ابن نسطورس إلى الصناعة وطرح مركبين في غاية الكبر من التي استعمالها بعد حريق الأسطول وفي غرّة شعبان نزل أيضا وطرح بين يديه أربعة مراكب كبارًا من المنشأة بعد الحريق واتفق موت العزيز بالله وهو سائر إلى الشام في مدينة بلبيس. فلما قام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله في الخلافة أمر في خامس شوال بحط الذين صلبم ابن نسطورس فتسلمهم أهلهم وأعطى لأهل كلّ مصلوب عشرة دنانير برسم كفنه ودفنه وخلع على عيسى بن نسطورس وأقرّه في ديوان الخاص ثم قبض عليه في ليلة الأربعاء سابع المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة واعتقله إلى ليلة الإثنين سابع عشريه فأخرجه الأستاذ برجوان وهو يومئذ يتولى تدبير الدولة إلى المقس وضرب عنقه فقال وهو ماض إلى المقس: كلّ شيء قد كنت أحسبه إلاّ موت العزيز بالله ولكن الله لا يظلم أحدًا والله إني لأذكر وقد ألقيت السهام للقوم المأخوذين في نهب دارماتك وفي بعضها مكتوب يُقتل وفي أخرى يُضرب فأخذ شاب ممن قبض عليه رقعة منها فجاء فيها يُقتل فأمرت به إلى القتل فصاحت أمّه ولطمت وجهها وحلفت أنها وهو ما كانا ليلة النهب في شيء من أعمال مصر وإنما ورد أمصر بعد النهب بثلاثة أيام وناشدتني الله تعالى أن أجعله من جملة من يَرب بالسوط وأن يُعفى من القتل فلم ألتفت إليها وأمرت بضرب عنقه فقالت أمّه: إن كنتّ لا بدّ قاتله فاجعله آخر من يُقتل لأتمتع به ساعة فأمرت به فجُعل أوّل من ضرب عنقه فلطخت بدمه وجهها وسبقتني وهي منبوشة الشعر ذاهلة القعل إلى القصر فلما وافيت قالت لي أقتلته كذلك. يقتلك الله فأمرت بها فضُربت حتى سقطت إلى الأرض ثم كان من الأمر ما ترون مما أنا صائر إليه وكان خبره عبرة لمن اعتبر وفي نصف شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم بأمر الله إلى صناعة المقس لتطرح المراكب بين يديه. صناعة الجزيرة: هذه الصناعة كانت بجزيرة مصر التي تُعرف اليوم بالروضة وهي أوّل صناعة عملت بفسطاط مصر بنيت في سنة أربع وخمسين من الهجرة وكان قبل بنائها هناك خمسمائة فاعل تكون مقيمة أبدًا معدذة لحريق يكون في البلاد أو هدم ثم اعتنى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الملك الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر وجعل موضع هذه الصناعة البستان المختار كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب. قال ابن المتوّج: وكان مكان بستان ابن كيسان صناعة العمارة وأدركت فيه بابها وبستان الجرف المقابل لبستان ابن كيسان كان مكانه بحر النيل وإن الجرف تربى به. الميادين ميدان ابن طولون كان قد بناه وتأنق فيه تأنقًا زائدًا وعمل فيه المناخ وبركة الزئبق والقبة الذهبية وقد ذكر خبر هذا الميدان عند ذكر القطائع من هذا الكتاب. ميدان الإخشيد هذا الميدان أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر بجوار بستانه الذي يُعرف اليوم في القاهرة بالكافوريّ ويشبه أن يكون موضع هذا الميدان اليوم حيث المكان المعروف بالبندقانيين وحامة الوزيرية وما جاور ذلك. وكان لهذا البستان بابان من حديد قلعهما القائد جوهر عندما قدم القرمطيّ إلى مصر يريد أخذها وجعلهما على باب الخندق الذي حفره بظاهر القاهرة قريبًا من مدينة عين شمس وذلك في سنة ستين وثلاثمائة وكان هذا الميدان من أعظم أماكن مصر وكانت فيه الخيول السلطانية في الدولة الإخشيدية. ميدان القصر هذا الميدان موضعه الآن في القاهرة يُعرف بالخرنشف عُمل عند بناء القاهرة بجوار البستان الكافوريّ ولمْ يزل ميدانًا للخلفاء الفاطميين يُدخل إليه من باب التبانين الذي موضعه الآن يعرف بقبو الخرنشف فلما زالت الدولة الفاطمية تعطل وبقي إلى أن بنى به العز اصطبلات بالخرنشف ثم حُكر وبني فيه فصار من أخطاط القاهرة. ميدان قراقوش هذا الميدان خارج باب الفتوح. ميدان الملك العزيز هذا الميدان كان بجوار خليج الدكر وكان موضعه بستانًا. قال القاضي الفاضل في متجددات ثالث عشري شهر رمضان سنة أربع وتسعين وخمسمائة: خرج أمر الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بقطع النخل المثمر المستغل تحت اللؤلؤة بالبستان المعروف بالبغدادية وهذا البستان كان من بساتين القاهرة الموصوفة وكان منظره من المناظر المستحسنة وكان له مستغل وكان قد عنى الأولون به لمجاورته اللؤلؤة وأطلال جميع مناظرها عليه وجَعَل هذا البستان ميدانًا وحَرَث أرضه وقطع ما فيه من الأصول. انتهى. ثم حكر الناس أرض هذا البستان وبنوا عليها وهو الأن دائر فيه كيمان وأتربة انتهى. الميدان الصالحيّ هذا الميدان كان بأراضي اللوق من برّ الخليج الغربيّ وموضعه الأن من جامع المطابخ بباب اللوق إلى قنطرة المذكورة وكان الناصريذ ومن جملته الطريق المملوكة الآن من باب اللوق إلى القنطرة المذكورة وكان أوّلًا بستانًا يُعرف ببستان الشريف ابن ثعلب فاشتراه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بثلاثة آلاف دينار مصرية من الأمير حصن الدين ثعلب بن الأمير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة وجعله ميدانًا وأنشأ فيه مناظر جليلة تشرف على النيل الأعظم وصار يركب إليه ويلعب فيه بالكرة وكان عمل هذا الميدان سببًا لبناء القنطرة التي يقال لها اليوم قنطرة الخرق على الخليج الكبير لجوازه عليها وكان قبل بنائها موضعها موردة سقائي القاهرة وما برح هذا الميدان تلعب فيه الملوك بالكرة من بعد الملك الصالح إلى أن انحسر ماء النيل من تجاهه وبَعُد عنه فأنشأ الملك الظاهر ميدانًا على النيل. وفي سطلنة الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحي النجميّ قال له منجمه أنّ امرة تكون سببًا في قتله فأمر أن تخرب الدور والحوانيت التي من قلعة الجبل بالتبانة إلى باب زويلة وإلى باب الخرق وإلى باب اللوق إلى الميدان الصالحيّ وأمر أن لا يُترك باب مفتوح بالأماكن التي يمرّ عليها يوم ركوبه إلى الميدان ولا تُفتح أيضًا طاقة وما زال باب هذا الميدان باقيًا وعليه طوارق مدهونة إلى ما بعد سنة أربعين وسبعمائة فأدخله صلاح الدين بن المغربيّ في قيسارية الغزل التي أنشأ هناك ولأجل هذا الباب قيل لذلك الخط باب اللوق ولما خَرُبَ هذا الميدان حكر وبني موضعه ما هنالك من المساكن ومن جملته حكر مرادي وهو على يُمنة من سلك من جامع الطباخ إلى قنطرة قدادار وهو في أوقاف خانقاه قوصون وجامع قوصون بالقرافة وهذا الميدان الظاهريّ: هذا الميدان كان بطرف أراضي اللوق يشرف على النيل الأعظم وموضعه الآن تجاه قنطرة قدادار من جهة باب اللوق أنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ لما انحسر ماء النيل وبعد عن ميدان أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب وما زال يلعب فيه بالكرة هو ومن بعده من ملوك مصر إلى أن كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة فنزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إليه وخرّب مناظره وعمله بستانًا من أجل بعد البحر عنه وأرسل إلى دمشق فحُمل إليها منها سائر أصناف الشجر وأحضر معها خولة الشام والمطعمين فغرسوها فيه وطعموها ومازال بستانًا عظيمًا ومنه تعلم الناس بمصر تطعيم الأشجار في بساتين جزيرة الفيل وجعل السلطان فواكه هذا البستان مع فواكه البستان الذي أنشأه بسرياقوس تُحمل بأسرها إلى الشراب خاناه السلطانية بقلعة الجبل ولا يباع مناه شيء البتة وتصرف كلفهما من الأموال الديوانية فجادت فواكه هذين البستانين وكثرت حتى حاكت بحسنها فواكه الشام لشدّة العناية والخدمة بهما ثم إنَّ السلطان لما اختص بالأمير قوصون أنعم بهذا البستان عليه فعمر تجاهه بالزريبة التي عرفت بزريبة قوصون على النيل وبنى الناس الدور الكثيرة هناك سميا لما حفر الخليج الناصري فإن العمارة عظمت فيما بين هذا البستان والبحر وفيما بينه وبين القاهرة ومصر ثم إنّ هذا البستان خرب لتلاشي أحواله بعد قوصون وحكرت أرضه وبنى الناس فوقها الدور التي على يُسرة من صعد القنطرة من جهة باب اللوق يريد الزريبة ثم لما خرب خط الزريبة خرب ما عمر بأرض هذا البستان من الدور منذ سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم. ميدان بركة الفيل هذا الميدان كان مشرفًا على بركة الفيل قبالة الكبش وكان أوّلًا اصطبل الجوق برسم خيول المماليك السلطانية إلى أن جلس امير زين الدين كتبغا على تخت الملك وتلقب بالملك العادل بعد خلعه الملك الناصر محمد بن قلاون في المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة فلما دخلت سنة خمس وتسعين كان الناس في أشدّ ما يكون من غلاْ الأسعار وكثرة الموتان والسلطان خائف على نفسه ومتحرّز من وقوع فتنة وهو مع ذلك ينزل من قلعة الجبل إلى الميدان الظاهري بظرف اللوق فحسن بخاطره أن يعمل إصطبل الجوق المذكور ميدانًا عوضًا عن ميدان اللوق وذكر ذلك للأمراء فأعجبهم ذلك فأمر بإخراج الخيل منه وشرع في عمله ميدانًا وبادر الناس من حينئذ إلى بناء الدور بجانبه وكان أوّل من أنشأ هناك الأمير علم الدين سنجر الخازن في الموضع الذي عرف اليوم بحكر الخازن وتلاه الناس في العمارة والأمراء وصار السلطان ينزل إلى هذا الميدان من القلعة فلا يجد في طريقه أحدًا من الناس سوى أصحاب الدكاكين من الباعة لقلة الناس وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء ولقد رآه شخص من الناس وقد نزل إلى الميدان والطرقات خالية قلّ للغلا أنتَ وابنَ زهرٍ بلغتما الحدَّ والنهايةْ ترفقا بالورى قليلًا في واحدِ منكما كفايهْ وما برح هذا الميدان باقيًا إلى أن عمّر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل فأدخل فيه جميع أرض هذا الميدان وجعله إصطبل الأمير بكتمر الساقي في سنة سبع عشرة وسبعمائة وهو باق إلى وقتنا هذا. ميدان المهاري: هذا الميدان بالقرب من قناطر السباع في برّ الخليج الغربيّ كان من جملة جنان الزهريّ أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة عشرين وسبعمائة ومن وراء هذا الميدان بركة ماء كان موضعها كرم القاضي الفاضل رحمة الله عليه. قال جامع السيرة الناصرية: وكان الملك الناصر محمد بن قلاون له شغف عظيم بالخيل فعمل ديوانًا ينزل فيه كلّ فرس بشأنه واسم صاحبه وتاريخ الوقت الذي حضر فيه فإذا حملت فرس من خيول السلطان أعلم به وترقب الوقت الذي تلد فيه واستكثر من الخيل حتى احتاج إلى مكان برسم نتاجها فركب من قلعة الجبل في سنة عشرين وسبعمائة وعين موضعًا يعمله ميدانًا برسم المهاري فوقع اختاره على أرض بالقرب من قناطر السباع وما زال واقفًا بفرسه حتى حدّد الموضع وشرع في نقل الطين البليز إليه وزرعه من النخل وغيره وركب على الآبار التي فيه السواقي فلم يمض سوى أيام حتى ركب إليه ولعب فيه بالكرة مع الخاصكية ورتب فيه عدّة حجور للنتاج وأعدّ لها سوّاسًا وأميرًا خورية وسائر ما يحتاج إليه وبني فيه أماكن ولازم الدخول إليه في ممرّه إلى الميدان الذي أنشأه على النيل بموردة الملح. فلما كان بعد أيام واشهر حسن في نفسه ان يبني تجاه هذا الميدان على النيل الأعظم بجوار جامع الطيبرسي زريبة ويبرز بالمناظر التي ينشئها في الميدان إلى قرب البحر فنزل بنفسه وتحدّث في ذلك فكثرَّر المهندسون المصروف في عينه وصعَبوا الأمر من جهة قلة الطين هناك وكان قد أدركه السفر للصعيد فترك ذلك وما برحت الخيول في هذا الميدان إلى أن مات الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وثمانمائة واستمرّ بعده في أيام ابنه الملك الناصر فرج إلاّ أنه تلاشى أمره عما كان قبل ذلك ثم انقطعت منه الخيول وصار براحًا خاليًا. ميدان سرياقوس: كان هذا الميدان شرقيّ ناحيبة سرياقوس بالقرب من الخانقاه أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وبنى فيه قصورًا جليلة وعدّة منازل للأمراء وغرس فيه بستانًا كبيرًا نقل إليه من دمشق سائر الأشجار التي تحمل الفواكه وأحضر معها خولة بلاد الشام حتى غرسوها وطعموا الأشجار فأفلح فيه الكرم والسفرجل وسائر الفواكه فلما كمل في سنة خمس وعشرين خرج ومعه الأمراء والأعيان ونزل القصور التي هناك ونزل الأمراء والأعيان على منازلهم في الأماكن التي بنيت لهم واستمرّ يتوجه إليه في كلّ سنة ويقيم به الأيام ويلعب فيه بالكرة إلى أن مات فعمل ذلك أولاده الذين ملكوا من بعده. فكان السلطان يخرج في كل سنة من قلعة الجبل بعدما تنقي أيام الركوب إلى الميدان الكبير الناصريّ وعلى النيل ومعه جميع أهل الدولة من الأمراء والكتاب وقاضي العسكر وسائر أرباب الرتب ويسير إلى السرحة بناحية سرياقوس وينزل بالقصور وركب إلى الميدان هناك للعب الكرة ويخلع الأمراء وسائر أهل الدولة ويقيم في هذه السرحة أيامًا فيمرّ للناس في إقامتهم بهذه السرحة أوقات لايمكن وصف ما فيها من المسرّات ولا حصر ما ينفق فيها من المآكل والهبات من الأموال ولم يزل هذا الرسم مستمرّ إلى سنة تسع وتسعين وسبعمائة وهي آخر سرحة سار إليها السلطان بسرياقوس ومن هذه السنة انقطع السلطان الملك الظاهر برقوق عن الحركة لسرياقوس فإنه اشتغل في سنة ثمانمائة بتحرّك المماليك عليه من وقت قيام الأمير علي باي إلى أن مات. وقال من بعده انبه الملك الناصر فرج فما صفا الوقت في أيامه من كثرة الفتن وتواتر الغلوات والمحن إلى أن نسي ذلك وأهمل أمر الميدان والقصور وخرب وفيه إلى اليوم بقية قائمة. ثم بيعت هذه القصور في صفر سنة خمس وعشرين وثمانمائة بمائة دينار لينقض خشبها وشبابيكها وغيرها فنُقضت كلها وكان من عادة السلطان إذا خرج إلى الصيد لسرياقوس أو شبرا أو البحيرة أنه ينعم على أكابر أمراء الدولة قدْرًا وسنًَّا كلّ واحد بألف مثقال ذهبيًا وبرذون خاص مسرج ولمجم وكنبوش مذهب وكان من عادته إذا مرّ في متصيدانه بإقطاع أمير كبير قدّم له من الغنم والإوز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسموا همة مثله إليه فيقبله السلطان منه وينعم بخلعة كاملة وربما أمر لبعضهم بمبلغ مال. وكانت عادة الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب في المدينة وخلفه جنيب وأما أكابرهم فيركب بجنيبين هذا في المدينة والحاضرة وهكذا يكون إذا خرج إلى سرياقوس وغيرها من نواحي الصعيد ويكون في الخارج إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار لكل أمير طلب يشتمل على أكثر مماليكه وقدّامهم خزانة محمولة على جمل واحد يجرّه راكب آخر على جمل والمال على جملين وربما زاد بعضهم على ذلك. وأمام الخزانة عدة جنائب تجرّ على أيدي مماليك ركّاب خيل وهجن وركّابٌ من العرب على هجن وأمامها الهجن بأكوارها مجنونة وللطبلخانات قطار واحد وهو أربعة ومركوب الهجان والمال قطاران وربما زاد بعضهم وعدد الجنائب في كثرتها وقلتها إلى رأي الأمير وسعة نفسه والجنائب منها ما هو مسرح ملجم ومنها ما هو بعباءة لا غير وكان يضاهي بعضهم بعضاٌ في الملابس الفاخرة والسروح المحلاة والعدد الملحية. وكان من رسوم السلطان في خروجه إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار أن لا يتكلف إظهار كلّ شعار السلطنة بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدّم عليهم واستاداره وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن وأما هو نفسه فإنه يركب ومعه عدّة كبيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص وجملة من خواص مماليكه ولا يركب في السير برقبة ولا بعصائب بل يتبعه جنائب خلفه ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل فإذا جاء الليل حُملت قدّامه فوانيس كثيرة ومشاعل فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع موكبية شمعدانات كفت وصاحت الجاويشية بين يديه ونزل الناس كافة إلاّحملة السلاح فإنهم وراءه والوشاقية أيضًا وراءه وتمشي الطير دارية حوله حتى إذا وصل القصور بسرياقوس أو الدهليز من المخيم نزل عن فرسه ودخل إلى الشقة وهي خيمة مستديرة متسعة ثم منها إلى شقة مختصرة ثم منها إلى اللاجوق وبدائر كلّ خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه وفي صدر اللاجوق قصر صغير من خشب يرسم المبيت فيه وينصب بإزاء الشقة الحمّام بقدور الرصاص والحوض على هيئة الحمام المبنيّ في المدن إلا أنه مختصر. فإذا نام السلطان طافت به المماليك دائرة بعد دائرة وطاف بالجميع الحرس وتدور الزفة حول الدهليز في كلّ ليلة وتدور بسرياقوس حول القصر في كل ليلة مرتين الأولى منذ يأوي إلى النوم والثانية عند قعوده من النوم وكل زفة يدور بها أمير جاندار وهو من أكابر الأمراء وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياتة ن وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب النوب من الخدم ويصحب السلطان في السفر غالب ما تدعو الحاجة إيه حتى يكاد يكون معهم مارستان لكثرة من معه من الأطباء وأرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير وما يجري مجرى ذلك وكان من عاده طبيب ووصف له ما يناسبه يُصرف له من الشراب خاناه أو الدواء خاناه المحمولين في الصحبة. والله أعلم.
|